
لا بد أن نعرف أن الشريعة الإسلامية نظام شامل للحياة صالح لكل زمان ومكان وبالتالي فمن منطلق تلك الشمولية الدينية يجب أن نعي أن فقه المواطنة يعتبر من المفاهيم الإسلامية الأصيلة لا محالة وإن كان الكثير من طلبة العلم ومن الدعاة قد قصر في تأكيد هذا الفقه لطلبته أولأتباعه ، وهذا التقصير لا يقتضي بالضرورة أن هذا المفهوم هامشي أو من باب العلم الذي لاينفع فهذا الكلام يطعن في شمولية الإسلام ، والصحيح أن الإسلام قد تناول فقه المواطنة عن طريق بعض النصوص والآثار، فهذا الرسول صلى الله عليه وسلم يقول عن وطنه مكة
والله لإنك لأحب البلاد إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك ما خرجت ) أو كما قال عليه الصلاة والسلام ، فهذا الحديث يعكس حب النبي عليه الصلاة والسلام لوطنه ولأرضه ، وهذا بلال رضي الله عنه الذي عاش في مكة يهتف هو الآخر ليعلنها مدوية نشيداً يترنم به في حب الوطن وهو في المدينة المنورة قائلاً:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلةً بواد وحولي إذخـير وجليــل
وهل أرِدن يومـاً ميـاه مجنـة وهل يبدُوَنْ لي شامةٌ وطفيل
ولكن رغم كل ذلك فإن مفهوم المواطنة في الفكر الإسلامي يختلف من حيث الإسقاطات عن باقي الأفكار والإيدولوجيات لاسيما القوميين والعلمانيين وغيرهم ، فالإسلاميون يؤمنون بأن الحدود الجغرافية للوطن هي حدود عقدية تنطلق من رباط العقيدة الإسلامية الممزوجة بنسيج الأخوة في الله مصداقاً لقول الله تعالى : " وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون " . فالوحدة والترابط في الله مع نبذ كافة أشكال التعصب في العرق والمذهب والجنس هي مقصد الشريعة الإسلامية وبالتالي هي إطار الوطن الواحد ، فالنبي صلى الله عليه وسلم آخى بين بلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي وعلي القرشي وجعلهم أخوة في الدين يربطهم رباط الإيمان والحب في الله تعالى فكانت هذه هي نواة الوطن الإسلامي ! ، ولعل الفقه الذي سار عليه الخلفاء الراشدون والصحابة من بعدهم مروراً بعهد التابعين وانتهاءً بعصر التدوين وما بعده ليشكل الفهم العميق والصحيح لفقه المواطنة ، فكل بقعة فيها مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله وطن عندنا له حرمته وقدسيته وحبه واخلاصه ونصرته ، بما في ذلك وطنك الذي تعيش فيه وتتمتع بحقوق المواطنة فيه من باب أولى .
لذلك حرص القوميون وما يسمى بدعاة الوطنية الجدد على إفراغ الأمة من امتدادها الإسلامي والحضاري مستفيدين من المعوقات والأطماع الخارجية التي حالت دون تحقيق وحدة ولو جزئية على المستوى الإقليمي (دول الخليج مثلاً) ، فأدى ذلك إلى تمزق صف الأمة مع غياب النصرة والتناصر ، فلا يكترث أحد بما يحدث في فلسطين وغزة إلا قليل ، ولا يهتم أحد في تحقيق مشاريع الوحدة والنهضة إلا يسير ، مع أن الخطاب الديني بمضمونه خطاب جماعي كما في قوله تعالى :" واعتصموا بحبل الله جميعاً ولاتفرقوا " وقوله: "كنتم خير أمة اخرجت للناس" .
