السؤال: فصل: في ظلم النفس
الإجابة: فصــل:
ومن هذا الباب [ ظلم النفس] فإنه إذا أطلق تناول جميع الذنوب، فإنها ظلم العبد نفسه، قال تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْقُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ وَمَا ظَلَمْنَاهُمْ وَلَـكِن ظَلَمُواْ أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ لِّمَّا جَاء أَمْرُ رَبِّكَ وَمَا زَادُوهُمْ غَيْر َتَتْبِيبٍ} [هود:100- 101]، وقال تعالى: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُواْ إِلَى بَارِئِكُمْ} [البقرة:54]، وقال في قتل النفس:{رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي} [القصص:16]، وقالت بلقيس: {رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [النمل:44]، وقال آدم عليه السلام :{ رَبَّنَا ظَلَمْنَا أَنفُسَنَا وَإِن لَّمْ تَغْفِرْ لَنَا وَتَرْحَمْنَا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ} [الأعراف:23].
ثم قد يقرن ببعض الذنوب، كقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ} [آل عمران:135]، وقوله: {وَمَن يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللّهَ يَجِدِ اللّهَ غَفُوراً رَّحِيماً} [النساء:110].
وأما لفظ [الظلم] المطلق، فيدخل فيه الكفر وسائر الذنوب، قال تعالى: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ وَقِفُوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ} [الصافات:22- 24].
قال عمر بن الخطاب: ونظراؤهم.
وهذا ثابت عن عمر، وروي ذلك عنه مرفوعاً.
وكذلك قال ابن عباس: وأشباههم.
وكذلك قال قتادة والكلبي: كل من عمل بمثل عملهم؛ فأهل الخمر مع أهل الخمر، وأهل الزنا مع أهل الزنا.
وعن الضحاك ومقاتل: قرناؤهم من الشياطين؛ كل كافر معه شيطانه في سلسلة، وهذا كقوله: { وَإِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ } [التكوير:7 ].
قال عمر بن الخطاب رضي اللّه عنه: الفاجر مع الفاجر، والصالح مع الصالح.
قال ابن عباس: وذلك حين يكون الناس أزواجاً ثلاثة.
وقال الحسن وقتادة: ألحق كل امرئ بشيعته؛ اليهودي مع اليهود، والنصراني مع النصارى.
وقال الربيع بن خثيم: يحشر المرء مع صاحب عمله، وهذا كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم لما قيل له "الرجل يحب القوم ولما يلحق بهم، قال: المرء مع من أحب"، وقال " الأرواح جنود مجندة؛ فما تعارف منها ائتلف، وما تناكر منها اختلف".
وقال "المرء على دين خليله، فلينظر أحدكم من يخالل".
وزوج الشيء نظيره، وسمى الصنف زوجاً؛ لتشابه أفراده، كقوله: {أَنبَتْنَا فِيهَا مِن كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ } [الشعراء:7]، وقال: {وَمِن كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [الذاريات:49].
قال غير واحد من المفسرين: صنفين ونوعين مختلفين: السماء والأرض، والشمس والقمر، والليل والنهار، والبر والبحر، والسهل والجبل، والشتاء والصيف، والجن والإنس، والكفر والإيمان، والسعادة والشقاوة، والحق والباطل، والذكر والأنثى، والنور والظلمة، والحلو والمر، وأشباه ذلك، {لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} فتعلمون أن خالق الأزواج واحد.
وليس المراد أنه يحشر معهم زوجاتهم مطلقاً؛ فإن المرأة الصالحة قد يكون زوجها فاجراً، بل كافراً، كامرأة فرعون.
وكذلك الرجل الصالح، قد تكون امرأته فاجرة، بل كافرة، كامرأة نوح ولوط، لكن إذا كانت المرأة على دين زوجها، دخلت في عموم الأزواج؛ ولهذا قال الحسن البصري: وأزواجهم المشركات.
فلا ريب أن هذه الآية تناولت الكفار، كما دل عليه سياق الآية. وقد تقدم كلام المفسرين: أنه يدخل فيها الزناة مع الزناة، وأهل الخمر مع أهل الخمر.
وكذلك الأثر المروي: إذا كان يوم القيامة قيل:أين الظلمة وأعوانهم؟ أو قال: وأشباههم فيجمعون في توابيت من نار، ثم يقذف بهم في النار.
وقد قال غير واحد من السلف: أعوان الظلمة من أعانهم، ولو أنهم لاق لهم دواة،أو برى لهم قلماً، ومنهم من كان يقول: بل من يغسل ثيابهم من أعوانهم.
وأعوانهم: هم من أزواجهم المذكورين في الآية؛ فإن المعين على البر والتقوى من أهل ذلك، والمعين على الإثم والعدوان من أهل ذلك، قال تعالى: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا وَمَن يَشْفَعْ شَفَاعَةً سَيِّئَةً يَكُن لَّهُ كِفْلٌ مِّنْهَا} [النساء:85]، والشافع الذي يعين غيره، فيصير معه شفعا بعد أن كان وتراً؛ ولهذا فسرت الشفاعة الحسنة بإعانة المؤمنين على الجهاد، والشفاعة السيئة بإعانة الكفار على قتال المؤمنين كما ذكر ذلك ابن جرير، وأبو سليمان وفسرت الشفاعة الحسنة بشفاعة الإنسان للإنسان ليجتلب له نفعاً، أو يخلصه من بلاء كما قال الحسن ومجاهد، وقتادة وابن زيد.
فالشفاعة الحسنة إعانة على خير يحبه اللّه ورسوله، من نفع من يستحق النفع، ودفع الضر عمن يستحق دفع الضرر عنه.
والشفاعة السيئة إعانته على ما يكرهه اللّه ورسوله، كالشفاعة التي فيها ظلم الإنسان، أو منع الإحسان الذي يستحقه.
وفسرت الشفاعة الحسنة بالدعاء للمؤمنين، والسيئة بالدعاء عليهم، وفسرت الشفاعة الحسنة بالإصلاح بين اثنين، وكل هذا صحيح، فالشافع زوج المشفوع له، إذ المشفوع عنده من الخلق إما أن يعينه على بر وتقوى، وإما أن يعينه على إثم وعدوان.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا أتاه طالب حاجة،قال لأصحابه "اشفعوا تؤجروا،ويقضي اللّه على لسان نبيه ماشاء".
وتمام الكلام يبين أن الآية وإن تناولت الظالم الذي ظلم بكفره فهي أيضاً متناولة مادون ذلك، وإن قيل فيها: {وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ} [الصافات:22]، فقد ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "تعس عبد الدينار، تعس عبد الدرهم، تعس عبد القطيفة تعس عبد الخميصة، تعس وانتكس وإذا شيك فلا انتقش".
وثبت عنه في الصحيح أنه قال "ما من صاحب كنز إلا جعل له كنزه يوم القيامة شجاعاً أقرع، يأخذ بلهزمته:أنا مالك، أنا كنزك".
وفي لفظ "إلا مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع،يفر منه وهو يتبعه،حتى يطوقه في عنقه"، وقرأ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم هذه الآية: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُواْ بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ} [ آل عمران:180]،وفي حديث آخر "مثل له يوم القيامة شجاعاً أقرع، يتبع صاحبه حيثما ذهب، وهو يفر منه: هذا مالك الذي كنت تبخل به، فإِذَا رأى أنه لابد له منه، أدخل يده في فيه، فيقضمها كما يقضم الفحل".
وفي رواية" فلا يزال يتبعه، فيلقمه يده فيقضمها، ثم يلقمه سائر جسده".
وقد قال تعالى في الآية الأخرى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَـذَا مَا كَنَزْتُمْ لأَنفُسِكُمْ فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} [التوبة:34-35].
وقد ثبت في الصحيح وغيره، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "ما من صاحب كنز لا يؤدي زكاته إلا أحمى عليه في نار جهنم، فيجعل صفائح،فيكوى بها جبينه وجنباه،حتى يحكم اللّه بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يرى سبيله إما إلى الجنة وإما إلى النار" .
وفي حديث أبي ذر " بشر الكانزين برضف يحمى عليها في نار جهنم، فتوضع على حلمة ثدي أحدهم ، حتى يخرج من نغض كتفيه، ويوضع على نغض كتفيه، حتى يخرج من حلمة ثدييه، يتزلزل وتكوى الجباه والجنوب والظهور حتى يلتقي الحر في أجوافهم".
وهذا كما في القرآن، ويدل على أنه بعد دخول النار، فيكون هذا لمن دخل النار ممن فعل به ذلك أولاً في الموقف.
فهذا الظالم لما منع الزكاة يحشر مع أشباهه، وماله الذي صار عبداً له من دون اللّه، فيعذب به، وإن لم يكن هذا من أهل الشرك الأكبر الذين يخلدون في النار؛ ولهذا قال في آخر الحديث "ثم يرى سبيله إما إلى الجنة، وإما إلى النار".
فهذا بعد تعذيبه خمسين ألف سنة مما تعدون، ثم يدخل الجنة.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم "الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل".
قال ابن عباس وأصحابه: كفر دون كفر، وظلم دون ظلم، وفسق دون فسق.
وكذلك قال أهل السنة كأحمد بن حنبل وغيره، كما سنذكره إن شاء اللّه وقد قال اللّه تعالى: {اتَّخَذُواْ أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَاباً مِّن دُونِ اللّهِ وَالْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَمَا أُمِرُواْ إِلاَّ لِيَعْبُدُواْ إِلَـهاً وَاحِداً لاَّ إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} [ التوبة:31].
وفي حديث عدي بن حاتم وهو حديث حسن طويل رواه أحمد والترمذي وغيرهما وكان قد قدم على النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو نصراني فسمعه يقرأ الآية، قال: فقلت له" إنا لسنا نعبدهم. قال: أليس يحرمون ما أحل اللّه فتحرمونه، ويحلون ما حرم اللّه فتحلونه؟! قال: فقلت: بلى. قال:فتلك عبادتهم".
وكذلك قال أبو البختري: أما إنهم لم يصلوا لهم، ولو أمروهم أن يعبدوهم من دون اللّه ما أطاعوهم، ولكن أمروهم، فجعلوا حلال اللّه حرامه، وحرامه حلاله، فأطاعوهم،فكانت تلك الربوبية.
وقال الربيع بن أنس: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل ؟ قال: كانت الربوبية أنهم وجدوا في كتاب اللّه ما أمروا به ونهوا عنه،فقالوا: لن نسبق أحبارنا بشيء، فما أمرونا به ائتمرنا،وما نهونا عنه انتهينا لقولهم.
فاستنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم، فقد بين النبي صلى الله عليه وسلم أن عبادتهم إياهم كانت في تحليل الحرام وتحريم الحلال؛ لا أنهم صلوا لهم، وصاموا لهم، ودعوهم من دون اللّه،فهذه عبادة للرجال،وتلك عبادة للأموال،وقد بينها النبي صلى الله عليه وسلم،وقد ذكر اللّه أن ذلك شرك بقوله:{لاَّ إلّهّ إلاَّ هٍوّ سٍبًحّانّهٍ عّمَّا يٍشًرٌكٍونّ }، فهذا من الظلم الذي يدخل في قوله: {احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ} [الصافات:22- 23].
فإن هؤلاء والذين أمروهم بهذا هم جميعاً معذبون، وقال: {إِنَّكُمْ وَمَا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنتُمْ لَهَا وَارِدُونَ} [الأنبياء:98].
وإنما يخرج من هذا من عُبد مع كراهته لأن يعبد ويطاع في معصية اللّه، فهم الذين سبقت لهم الحسنى، كالمسيح والعزير وغيرهما، فأولئك {مُبْعَدُون}.
وأما من رضي بأن يعبد ويطاع في معصية اللّه، فهو مستحق للوعيد، ولو لم يأمر بذلك، فكيف إذا أمر؟! وكذلك من أمر غيره بأن يعبد غير اللّه، وهذا من أزواجهم؛ فإن أزواجهم قد يكونون رؤساء لهم، وقد يكونون أتباعاً، وهم أزواج وأشباه لتشابههم في الدين، وسياق الآية يدل على ذلك؛ فإنه سبحانه قال:{احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ}.
قال ابن عباس: دلوهم.
وقال الضحاك مثله.
وقال ابن كيسان:قدموهم.
والمعنى: قودوهم كما يقود الهادي لمن يهديه؛ ولهذا تسمى الأعناق الهوادي؛ لأنها تقود سائر البدن، وتسمى أوائل الوحش الهوادي.
{وَقِفوهُمْ إِنَّهُم مَّسْئُولُونَ مَا لَكُمْ لَا تَنَاصَرُونَ} [الصافات: 24-25] أي: كما كنتم تتناصرون في الدنيا على الباطل {بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ وَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَسَاءلُونَ قَالُوا إِنَّكُمْ كُنتُمْ تَأْتُونَنَا عَنِ الْيَمِينِ قَالُوا بَل لَّمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ وَمَا كَانَ لَنَا عَلَيْكُم مِّن سُلْطَانٍ بَلْ كُنتُمْ قَوْماً طَاغِينَ فَحَقَّ عَلَيْنَا قَوْلُ رَبِّنَا إِنَّا لَذَائِقُونَ فَأَغْوَيْنَاكُمْ إِنَّا كُنَّا غَاوِينَ فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذَابِ مُشْتَرِكُونَ إِنَّا كَذَلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُوا آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَّجْنُونٍ }[الصافات: 26- 36].
وقال تعالى: {قَالَ ادْخُلُواْ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم مِّن الْجِنِّ وَالإِنسِ فِي النَّارِ كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا حَتَّى إِذَا ادَّارَكُواْ فِيهَا جَمِيعاً قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأُولاَهُمْ رَبَّنَا هَـؤُلاء أَضَلُّونَا فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النَّارِ قَالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَلَـكِن لاَّ تَعْلَمُونَ وَقَالَتْ أُولاَهُمْ لأُخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ فَذُوقُواْ الْعَذَابَ بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} [الأعراف:38- 39]، وقال تعالى: {وَإِذْ يَتَحَاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفَاء لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنتُم مُّغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِّنَ النَّارِ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيهَا إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبَادِ} [غافر:47- 48]، وقال تعالى: {وَلَوْ تَرَى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِندَ رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْلَا أَنتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ قَالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَنَحْنُ صَدَدْنَاكُمْ عَنِ الْهُدَى بَعْدَ إِذْ جَاءكُم بَلْ كُنتُم مُّجْرِمِينَ وَقَالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ إِذْ تَأْمُرُونَنَا أَن نَّكْفُرَ بِاللَّهِ وَنَجْعَلَ لَهُ أَندَاداً وَأَسَرُّوا النَّدَامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذَابَ وَجَعَلْنَا الْأَغْلَالَ فِي أَعْنَاقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [سبأ:31- 33].
وقوله في سياق الآية: {إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ} [الصافات:35]، ولا ريب أنها تتناول الشركين: الأصغر والأكبر، وتتناول أيضاً من استكبر عما أمره اللّه به من طاعته، فإن ذلك من تحقيق قول:لا إله إلا اللّه؛ فإن الإله هو المستحق للعبادة، فكل ما يعبد به اللّه فهو من تمام تأله العباد له، فمن استكبر عن بعض عبادته سامعاً مطيعاً في ذلك لغيره، لم يحقق قول: لا إله إلا اللّه، في هذا المقام.
وهؤلاء الذين اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابا حيث أطاعوهم في تحليل ما حرم اللّه وتحريم ما أحل اللّه يكونون على وجهين:
أحدهما: أن يعلموا أنهم بدلوا دين اللّه فيتبعونهم على التبديل، فيعتقدون تحليل ما حرم اللّه، وتحريم ما أحل اللّه، إتباعا لرؤسائهم، مع علمهم أنهم خالفوا دين الرسل، فهذا كفر، وقد جعله اللّه ورسوله شركاً وإن لم يكونوا يصلون لهم ويسجدون لهم فكان من اتبع غيره في خلاف الدين مع علمه أنه خلاف الدين، واعتقد ما قاله ذلك، دون ما قاله اللّه ورسوله مشركاً مثل هؤلاء.
والثاني: أن يكون اعتقادهم وإيمانهم بتحريم الحلال وتحليل الحرام ثابتاً، لكنهم أطاعوهم في معصية اللّه، كما يفعل المسلم ما يفعله من المعاصي التي يعتقد أنها معاص، فهؤلاء لهم حكم أمثالهم من أهل الذنوب، كما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال "إنما الطاعة في المعروف"، وقال "على المسلم السمع والطاعة فيما أحب أو كره، ما لم يؤمر بمعصية"، وقال "لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق"، وقال" من أمركم بمعصية اللّه فلا تطيعوه".
ثم ذلك المحرم للحلال والمحلل للحرام، إن كان مجتهداً قصده إتباع الرسول، لكن خفي عليه الحق في نفس الأمر، وقد اتقى اللّه ما استطاع فهذا لا يؤاخذه اللّه بخطئه، بل يثيبه على اجتهاده الذي أطاع به ربه.
ولكن من علم أن هذا خطأ فيما جاء به الرسول، ثم اتبعه على خطئه، وعدل عن قول الرسول فهذا له نصيب من هذا الشرك الذي ذمه اللّه، لاسيما إن اتبع في ذلك هواه، ونصره باللسان واليد، مع علمه بأنه مخالف للرسول، فهذا شرك يستحق صاحبه العقوبة عليه.
ولهذا اتفق العلماء على أنه إذا عرف الحق لا يجوز له تقليد أحد في خلافه، وإنما تنازعوا في جواز التقليد للقادر على الاستدلال، وإن كان عاجزاً عن إظهار الحق الذي يعلمه، فهذا يكون كمن عرف أن دين الإسلام حق وهو بين النصارى، فإذا فعل ما يقدر عليه من الحق، لا يؤاخذ بما عجز عنه، وهؤلاء كالنجاشي وغيره.
وقد أنزل اللّه في هؤلاء آيات من كتابه، كقوله تعالى: {وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَمَن يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا أُنزِلَ إِلَيْكُمْ وَمَآ أُنزِلَ إِلَيْهِمْ} [آل عمران:199]، وقوله: {وَمِن قَوْمِ مُوسَى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَبِهِ يَعْدِلُونَ} [الأعراف: 159]، وقوله: {مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ} [المائدة:83].
وأما إن كان المتبع للمجتهد عاجزاً عن معرفة الحق على التفصيل، وقد فعل ما يقدر عليه مثله من الاجتهاد في التقليد فهذا لا يؤاخذ إن أخطأ، كما في القبلة.
وأما إن قلد شخصاً دون نظيره بمجرد هواه، ونصره بيده ولسانه،من غير علم أن معه الحق فهذا من أهل الجاهلية، وإن كان متبوعه مصيباً، لم يكن عمله صالحاً.
وإن كان متبوعه مخطئاً، كان آثما، كمن قال في القرآن برأيه، فإن أصاب فقد أخطأ، وإن أخطأ فليتبوأ مقعده من النار.
وهؤلاء من جنس مانع الزكاة الذي تقدم فيه الوعيد، ومن جنس عبد الدينار والدرهم والقطيفة والخميصة، فإن ذلك لما أحب المال حباً منعه عن عبادة اللّه وطاعته، صار عبداً له.
وكذلك هؤلاء، فيكون فيه شرك أصغر، ولهم من الوعيد بحسب ذلك.
وفي الحديث "إن يسير الرياء شرك".
وهذا مبسوط عند النصوص التي فيها إطلاق الكفر والشرك على كثير من الذنوب.
والمقصود هنا أن الظلم المطلق يتناول الكفر، ولا يختص بالكفر، بل يتناول ما دونه أيضاً، وكل بحسبه، كلفظ [الذنب] و[الخطيئة] و[المعصية]، فإن هذا يتناول الكفر والفسوق والعصيان، كما في الصحيحين عن عبد اللّه بن مسعود قال " قلت: يا رسول اللّه، أي الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل للّه ندا وهو خلقك. قلت:ثم أي؟ قال: ثم أن تقتل ولدك خشية أن يطعم معك. قلت:ثم أي؟ قال: ثم أن تزاني بحليلة جارك"، فأنزل اللّه تعالى: {وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهاً آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَاماً يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَاناً إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صَالِحاً فَأُوْلَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَاباً} [الفرقان:68- 71].
فهذا الوعيد بتمامه على الثلاثة، ولكل عمل قسط منه؛ فلو أشرك ولم يقتل ولم يزن، كان عذابه دون ذلك.
ولو زنى وقتل ولم يشرك، كان له من هذا العذاب نصيب، كما في قوله: {وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُّتَعَمِّداً فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِداً فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَاباً عَظِيماً} [النساء:93].
ولم يذكر: [أبدا].
وقد قيل: إن لفظ [التأبيد] لم يجئ إلا مع الكفر، وقال اللّه تعالى: {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَى يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلاً يَا وَيْلَتَى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَاناً خَلِيلاً لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءنِي وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولاً} [الفرقان:27- 29].
فلا ريب أن هذا يتناول الكافر الذي لم يؤمن بالرسول.
وسبب نزول الآية كان في ذلك،فإن الظلم المطلق يتناول ذلك، ويتناول ما دونه بحسبه.
فمن خالَّ مخلوقاً في خلاف أمر اللّه ورسوله، كان له من هذا الوعيد نصيب، كما قال تعالى: {الْأَخِلَّاء يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ } [الزخرف:67]، وقال تعالى: {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُواْ مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُواْ وَرَأَوُاْ الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ} [البقرة:166].
قال الفضيل بن عياض: حدثنا الليث،عن مجاهد: هي المودات التي كانت بينهم لغير اللّه.
فإن المخالة تحاب وتواد؛ ولهذا قال "المرء على دين خليله"،، فإن المتحابين يحب أحدهما ما يحب الآخر بحسب الحب، فإذا اتبع أحدهما صاحبه على محبته ما يبغضه اللّه ورسوله، نقص من دينهما بحسب ذلك إلى أن ينتهي إلى الشرك الأكبر، قال تعالى: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَتَّخِذُ مِن دُونِ اللّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللّهِ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبّاً لِّلّهِ} [البقرة:165].
والذين قدموا محبة المال الذي كنزوه، والمخلوق الذي اتبعوه، على محبة اللّه ورسوله، كان فيهم من الظلم والشرك بحسب ذلك، فلهذا ألزمهم محبوبهم، كما في الحديث "يقول اللّه تعالى: أليس عدلا مني أن أولي كل رجل منكم ما كان يتولاه في الدنيا".
وقد ثبت في الصحيح: يقول: "ليذهب كل قوم إلى ما كانوا يعبدون؛ فمن كان يعبد الشمس الشمس، ومن كان يعبد القمر القمر، ومن كان يعبد الطواغيت الطواغيت، ويمثل للنصارى المسيح، ولليهود عزير. فيتبع كل قوم ما كانوا يعبدون، وتبقى هذه الأمة فيها منافقوها"، كما سيأتي هذا الحديث إن شاء اللّه فهؤلاء أهل الشرك الأكبر.
وأما عبيد المال الذين كنزوه، وعبيد الرجال الذين أطاعوهم في معاصي اللّه، فأولئك يعذبون عذاباً دون عذاب أولئك المشركين، إما في عرصات القيامة، وإما في جهنم، ومن أحب شيئاً دون اللّه عذب به.
وقال تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَنفِقُواْ مِمَّا رَزَقْنَاكُم مِّن قَبْلِ أَن يَأْتِيَ يَوْمٌ لاَّ بَيْعٌ فِيهِ وَلاَ خُلَّةٌ وَلاَ شَفَاعَةٌ وَالْكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ} [البقرة:254].
فـالكفر المطلق هو الظلم المطلق؛ ولهذا لا شفيع لأهله يوم القيامة كما نفي الشفاعة في هذه الآية، وفي قوله: {وَأَنذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَنَاجِرِ كَاظِمِينَ مَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَلَا شَفِيعٍ يُطَاعُ يَعْلَمُ خَائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُورُ} [غافر:18-19]، وقال: {فَكُبْكِبُوا فِيهَا هُمْ وَالْغَاوُونَ وَجُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ قَالُوا وَهُمْ فِيهَا يَخْتَصِمُونَ تَاللَّهِ إِن كُنَّا لَفِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ إِذْ نُسَوِّيكُم بِرَبِّ الْعَالَمِينَ وَمَا أَضَلَّنَا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ فَلَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِين} [الشعراء:94: 102].
وقوله: {إِذْ نُسَوِّيكُم} لم يريدوا به أنهم جعلوهم مساوين للّه من كل وجه، فإن هذا لم يقله أحد من بني آدم، ولا نقل عن قوم قط من الكفار أنهم قالوا: إن هذا العالم له خالقان متماثلان، حتى المجوس القائلين [بالأصلين: النور والظلمة] متفقون على أن النور خير يستحق أن يعبد ويحمد، وأن الظلمة شريرة تستحق أن تذم وتلعن، واختلفوا: هل الظلمة محدثة أو قديمة؟ على قولين، وبكل حال لم يجعلوها مثل النور من كل وجه.
وكذلك مشركو العرب، كانوا متفقين على أن أربابهم لم تشارك اللّه في خلق السموات والأرض، بل كانوا مقرين بأن اللّه وحده خلق السموات والأرض وما بينهما، كما أخبر اللّه عنهم بذلك في غير آية، كقوله تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَن يَشَاء مِنْ عِبَادِهِ وَيَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّن نَّزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ مِن بَعْدِ مَوْتِهَا لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ} [العنكبوت:61- 63]، وقال تعالى: {وَلَئِن سَأَلْتَهُم مَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَجَعَلَ لَكُمْ فِيهَا سُبُلاً لَّعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ وَالَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّمَاء مَاء بِقَدَرٍ فَأَنشَرْنَا بِهِ بَلْدَةً مَّيْتاً كَذَلِكَ تُخْرَجُونَ وَالَّذِي خَلَقَ الْأَزْوَاجَ كُلَّهَا وَجَعَلَ لَكُم مِّنَ الْفُلْكِ وَالْأَنْعَامِ مَا تَرْكَبُونَ لِتَسْتَوُوا عَلَى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَتَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنَا هَذَا وَمَا كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ وَإِنَّا إِلَى رَبِّنَا لَمُنقَلِبُونَ} [الزخرف:9-14].
وهذه الصفات من كلام اللّه تعالى ليست من تمام جوابهم.
وقال تعالى:{قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ قُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ سَيَقُولُونَ لِلَّهِ} الآيات [المؤمنون:84- 87]، وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام40- 41]، وكذلك قوله: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ} [النمل:59: 61] ؟! أي: أَإله مع اللّه فعل هذا ؟ وهذا استفهام إنكار، وهم مقرون بأنه لم يفعل هذا إله آخر مع اللّه.
ومن قال من المفسرين: إن المراد: هل مع اللّه إله آخر؟ فقد غلط؛ فإنهم كانوا يجعلون مع اللّه آلهة أخرى، كما قال تعالى:{أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ}[الأنعام:19] وقال تعالى:{فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ} [هود:101] وقال تعالى عنهم:{أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص:5] وكانوا معترفين بأن آلهتهم لم تشارك اللّه في خلق السموات والأرض، ولا خلق شيء، بل كانوا يتخذونهم شفعاء ووسائط، كما قال تعالى:{وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ} [يونس:18] وهذه الصفات من كلام الله تعالى، ليست من تمام جوابهم .
وقال تعالى: {قُل لِّمَنِ الْأَرْضُ وَمَن فِيهَا إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} [المؤمنون: 84] {سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ} [المؤمنون: 85] {قُُلْ مَن رَّبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ} [المؤمنون: 86] {سيقولون لله} [المؤمنون: 87] الآيات.
وقال تعالى: {قُلْ أَرَأَيْتُكُم إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللّهِ أو أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَغَيْرَ اللّهِ تَدْعُونَ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ} [الأنعام: 40] {بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ مَا تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شَاء وَتَنسَوْنَ مَا تُشْرِكُونَ} [الأنعام: 41] .
وكذلك قوله: {آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ} [النمل: 59] {أَمَّنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ السَّمَاء مَاء فَأَنبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ مَّا كَانَ لَكُمْ أَن تُنبِتُوا شَجَرَهَا أَإِلَهٌ مَّعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ} [النمل: 60] {أَمَّن جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَاراً وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَاراً وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزاً أَإِلَهٌ} [النمل: 61] .
أي: أإله مع الله فعل هذا ؟ وهذا استفهام إنكار وهم مقرون بأنه لم يفعل هذا إله آخر مع الله .
ومن قال من المفسرين إن المراد: هل مع الله إله آخر ؟ فقد غلط، فإنهم كانوا يجعلون مع الله آلهة أخرى كما قال تعالى: {بَلَغَ أَئِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللّهِ آلِهَةً أُخْرَى قُل لاَّ أَشْهَدُ} [الأنعام: 19]. وقال تعالى: {أَنفُسَهُمْ فَمَا أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ مِن شَيْءٍ} [هود: 101].
وقال تعالى عنهم: {أَجَعَلَ الْآلِهَةَ إِلَهاً وَاحِداً إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عُجَابٌ} [ص: 5] .
وكانوا معترفين بأن آلهتهم لم تشارك الله في خلق السموات والأرض ولا خلق شيء، بل كانوا يتخذونهم شفعاء ووسائط كما قال تعالى: {وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللّهِ مَا لاَ يَضُرُّهُمْ وَلاَ يَنفَعُهُمْ وَيَقُولُونَ هَـؤُلاء شُفَعَاؤُنَا عِندَ اللّهِ}[يونس: 18] .
وقال عن صاحب يس: {وَمَا لِي لاَ أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ} [يس: 22] {أَأَتَّخِذُ مِن دُونِهِ آلِهَةً إِن يُرِدْنِ الرَّحْمَن بِضُرٍّ لاَّ تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلاَ يُنقِذُونِ} [يس: 23] .
وقال تعالى: {وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ} [الأنعام: 51] .
وقال تعالى: {اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ مَا لَكُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا شَفِيعٍ أَفَلَا تَتَذَكَّرُونَ} [السجدة: 4] .
وقال: {قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُم مِّن دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِن شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُم مِّن ظَهِيرٍ} [سبأ: 22] {وَلَا تَنفَعُ الشَّفَاعَةُ عِندَهُ إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ} [سبأ: 23] فنفي عما سواه كل ما يتعلق به المشركون فنفي أن يكون لغيره ملك أو قسط من الملك أو يكون عونا لله ولم يبق إلا الشفاعة، فبين أنها لا تنفع إلا لمن أذن له الرب كما قال تعالى: {مَن ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ} [البقرة: 255].
وقال تعالى عن الملائكة: {وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى} [الأنبياء: 28] .
وقال: {وَكَم مِّن مَّلَكٍ فِي السَّمَاوَاتِ لَا تُغْنِي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلَّا مِن بَعْدِ أَن يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَن يَشَاء وَيَرْضَى} [26].
فهذه [الشفاعة] التي يظنها المشركون، هي منتفية يوم القيامة كما نفاها القرآن .
وأما ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم أنه يكون .
فأخبر "أنه يأتي فيسجد لربه ويحمده لا يبدأ بالشفاعة أولاً.
فإذا سجد وحمد ربه بمحامد يفتحها عليه، يقال له: أي محمد ارفع رأسك وقل تسمع وسل تعط واشفع تشفع .
فيقول: أي رب أمتي فيحد له حداً فيدخلهم الجنة .
وكذلك في الثانية وكذلك في الثالثة وقال له أبو هريرة: من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة ؟ قال: من قال: لا إله إلا الله خالصا من قلبه" .
فتلك [الشفاعة] هي لأهل الإخلاص بإذن الله ليست لمن أشرك بالله ولا تكون إلا بإذن الله .
وحقيقته أن الله هو الذي يتفضل على أهل الإخلاص والتوحيد فيغفر لهم بواسطة دعاء الشافع الذي أذن له أن يشفع ليكرمه بذلك وينال به المقام المحمود الذي يغبطه به الأولون والآخرون صلى الله عليه وسلم كما كان في الدنيا يستسقي لهم ويدعو لهم، وتلك شفاعة منه لهم فكان الله يجيب دعاءه وشفاعته .
وإذا كان كذلك [فالظلم ثلاثة أنواع]: فالظلم الذي هو شرك لا شفاعة فيه .
وظلم الناس بعضهم بعضاً لا بد فيه من إعطاء المظلوم حقه، لا يسقط حق المظلوم لا بشفاعة ولا غيرها ولكن قد يعطى المظلوم من الظالم كما قد يغفر لظالم نفسه بالشفاعة.
فالظالم المطلق ما له من شفيع مطاع وأما الموحد فلم يكن ظالماً مطلقا بل هو موحد مع ظلمه لنفسه .
وهذا إنما نفعه في الحقيقة إخلاصه لله فبه صار من أهل الشفاعة .
ومقصود القرآن ينفي الشفاعة نفي الشرك وهو: أن أحداً لا يعبد إلا الله ولا يدعو غيره ولا يسأل غيره ولا يتوكل على غيره لا في شفاعة ولا غيرها، فليس له أن يتوكل على أحد في أن يرزقه وإن كان الله يأتيه برزقه بأسباب .
كذلك ليس له أن يتوكل على غير الله في أن يغفر له ويرحمه في الآخرة وإن كان الله يغفر له ويرحمه بأسباب من شفاعة وغيرها فالشفاعة التي نفاها القرآن مطلقاً، ما كان فيها شرك وتلك منتفية مطلقاً، ولهذا أثبت الشفاعة بإذنه في مواضع وتلك قد بين الرسول صلى الله عليه وسلم أنها لا تكون إلا لأهل التوحيد والإخلاص فهي من التوحيد , ومستحقها أهل التوحيد.
وأما الظلم المقيد فقد يختص بظلم الإنسان نفسه وظلم الناس بعضهم بعضا كقول آدم عليه السلام وحواء: ربنا ظلمنا أنفسنا وقول موسى رب إني ظلمت نفسي، وقوله تعالى: {وَالَّذِينَ إذا فَعَلُواْ فَاحِشَةً أو ظَلَمُواْ أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُواْ اللّهَ فَاسْتَغْفَرُواْ لِذُنُوبِهِمْ} [آل عمران: 135].
لكن قول آدم وموسى إخبار عن واقع لا عموم فيه وذلك قد عرف ولله الحمد أنه ليس كفراً وأما قوله والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم.
فهو نكرة في سياق الشرط يعم كل ما فيه ظلم الإنسان نفسه وهو إذا أشرك ثم تاب تاب الله عليه.
وقد تقدم أن ظلم الإنسان لنفسه يدخل فيه كل ذنب كبير أو صغير مع الإطلاق وقال تعالى ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد ومنهم سابق بالخيرات فهذا ظلم لنفسه مقرون بغيره فلا يدخل فيه الشرك الأكبر وفي الصحيحين عن ابن مسعود أنه لما أنزلت هذه الآية {الَّذِينَ آمَنُواْ وَلَمْ يَلْبِسُواْ إِيمَانَهُم بِظُلْمٍ} [الأنعام: 82].
شق ذلك على أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وقالوا " أينا لم يظلم نفسه فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إنما هو الشرك ألم تسمعوا إلى قول العبد الصالح إن الشرك لظلم عظيم".
والذين شق ذلك عليهم ظنوا أن الظلم المشروط هو ظلم العبد نفسه وأنه لا يكون الأمن والاهتداء إلا لمن يظلم نفسه فشق ذلك عليهم فبين النبي صلى الله عليه وسلم لهم ما دلهم على أن الشرك ظلم في كتاب الله تعالى وحينئذ فلا يحصل الأمن والاهتداء إلا لمن لم يلبس إيمانه بهذا الظلم ومن لم يلبس إيمانه به كان من أهل الأمن والاهتداء كما كان من أهل الاصطفاء في قوله ثم أورثنا الكتاب الذين اصطفينا من عبادنا إلى قوله جنات عدن يدخلونها وهذا لا ينفي أن يؤاخذ أحدهم بظلم نفسه إذا لم يتب كما قال تعالى: {فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرّاً يَرَهُ} [الزلزلة 7 -8] وقال تعالى: {مَن يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ} [النساء: 123] وقد سأل أبو بكر النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال " يا رسول الله وأينا لم يعمل سوءا فقال: يا أبا بكر ألست تنصب ألست تحزن ألست تصيبك اللأواء فذلك ما تجزون به". فبين أن المؤمن الذي إذا تاب دخل الجنة قد يجزى بسيئاته في الدنيا بالمصائب التي تصيبه كما في الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال "مثل المؤمن كمثل الخامة من الزرع تفيئها الرياح تقومها تارة وتميلها أخرى ومثل المنافق كمثل شجرة الأرز لا تزال ثابتة على أصلها حتى يكون انجعافها مرة واحدة".
وفي الصحيحين عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال "ما يصيب المؤمن من وصب ولا نصب ولا هم ولا حزن ولا غم ولا أذى حتى الشوكة يشاكها إلا كفر الله بها من خطاياه".
وفي حديث سعد بن أبي وقاص"قلت يا رسول الله: أي الناس أشد بلاء قال: الأنبياء ثم الصالحون ثم الأمثل فالأمثل يبتلى الرجل على حسب دينه فإن كان في دينه صلابة زيد في بلائه وإن كان في دينه رقة خفف عنه ولا يزال البلاء بالمؤمن حتى يمشي على الأرض وليس عليه خطيئة".
رواه أحمد والترمذي غيرهما وقال: المرض حطة يحط الخطايا عن صاحبه كما تحط الشجرة اليابسة ورقها.
والأحاديث في هذا الباب كثيرة فمن سلم من أجناس الظلم الثلاثة كان له الأمن التام والاهتداء التام ومن لم يسلم من ظلمه نفسه كان له الأمن والاهتداء مطلقا بمعنى أنه لابد أن يدخل الجنة كما وعد بذلك في الآية الأخرى.
وقد هداه إلى الصراط المستقيم الذي تكون عاقبته فيه إلى الجنة ويحصل له من نقص الأمن والاهتداء بحسب ما نقص من إيمانه بظلمه نفسه وليس مراد النبي صلى الله عليه وسلم بقوله إنما هو الشرك إن من لم يشرك الشرك الأكبر يكون له الأمن التام لاهتداء التام؛ فإن أحاديثه الكثيرة مع نصوص القرآن تبين أن أهل الكبائر معرضون للخوف لم يحصل لهم الأمن التام ولا الاهتداء التام الذي يكونون به مهتدين إلى الصراط المستقيم صراط الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، من غير عذاب يحصل لهم بل معهم أصل الاهتداء إلى هذا الصراط ومعهم أصل نعمة الله عليهم ولابد لهم من دخول الجنة.
وقول النبي صلى الله عليه وسلم إنما هو الشرك إن أراد به الشرك الأكبر فمقصوده إن من لم يكن من أهله فهو آمن مما وعد به المشركون من عذاب الدنيا والآخرة وهو مهتد إلى ذلك وإن كان مراده جنس الشرك فيقال ظلم العبد نفسه كبخله لحب المال ببعض الواجب هو شرك أصغر وحبه ما يبغضه الله حتى يكون يقدم هواه على محبة الله شرك أصغر ونحو ذلك فهذا صاحبه قد فاته من الأمن والاهتداء بحسبه ولهذا كان السلف يدخلون الذنوب في هذا الظلم بهذا الاعتبار.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى - المجلد السابع.
التصنيف: العقيدة الإسلامية